المعرفة الباطنيّة GNOSIS    

  تأليف  بوريس مورافييف 

 تعريب وتقديم وتعليق  د/ فؤاد رامز

 الناشر مكتبة مدبولي 

eng
arb frn
 
   

 

[1] ملاحظات المعرب على المصطلحين الحضرة - والحضرة في ذاتها:

إن المصطلحين التاليين وهما:

الحضرة - التي تناسب الوعي بالأنا - (الإنيّة)

الحضرة - في - حدّ - ذاتها - التي تناسب الوعي بـ: أنا  أوجد أنا موجود - أنا موجود ومستمر في الوجود.

مصطلحان هامّان وصعبا الفهم. لذلك حاولنا في هذه الملاحظات أن نوضح معانيها للقارئ على قدر استطاعتنا والله الموفّق.

إننا لم نعش هذا الشعور بالحضرة أو بالحضرة - في - حدّ- ذاتها. وليس لنا تمرس بهما. إننا نعيش بشخصياتنا، وأحسن وأشمل رمز لها هو الاسم - نعيشها في الظروف التاريخية والاجتماعية التي نجد أنفسنا في وسطها ولا نتساءل أبداً من "من نكون" - فإنه سؤال لا يخطر لنا على بال. فإذا تساءل احدّ منا - وهو ما لا يحدث في الحياة إلا نادراً - عما تكون هويّته - يجيب نفسه قائلاً: أنا حسن أو كريم بن فلانة وفلان الموجود في النصف الثاني من القرن العشرين بكل ما يحتوى عليه من مغريات التكنولوجيا الحديثة الباهرة، والذي أسعده الله بأن ولد في عصر انطلاق الإنسان إلى الفضاء - يتصل بأسمى قبل كل شيء دخولي إلى عالم الجنس الرائع المثري الذي لا أطراف لما يوعد به... عشت تجارب عديدة خاصّة بي - جامعيّ - موظف مهضوم الحقّ، لا أستطيع أن اقتنى كل ما أرغب فيه - كما أنني مع الأسف لم أعط الفرصة لكي أطوّر واظهر كل الإمكانيات والطاقات التي تتدفق بداخلي كما أنا متأكدّ من ذلك ... الخ من مثل هذه الأنسجة التي هي حياة كلّ منا... إن كانت النساجة قوّية أو هى من شباك العنكبوت...

إن هذا الرجل الذي يمثل كلاّ منا يسير في حياته التي هي سكر أو سبات عميق، وهو يعتقد كما يقول المؤلف أنه "في منتهى اليقظة ومنتهى الواقعية" لا يعلم، ولا يريد أن يعلم أيّ شيء عن الحضرة أو الحضرة - في - حد - ذاتها. فالناس كما يقول الحديث الشريف نيامُ حتى إذا ما ماتوا أفاقوا. وهم يكرهون بشدة كما يقول الحديث الشريف أيضا أن يموتوا قبل أن يموتوا. أيّ أن يموتوا للدنيا والوهم والجشع. ومع ذلك فان هناك طريقة سهلة وناجعة لكي يعلم هذا الإنسان إذا كان من أهل الطليعة، ما هي تلك الإنيّة أو ذلك "الأنا" الذي يخفيه عنه الاسم والكبرياء والكذب والاعتقاد الراسخ أنه اقرب الناس لله والحق والفضيلة.

لنا في استقامة الرأي والبعد عن الأوهام الصبيانية التي نعلل بها أنفسنا هي حالة الحضرة تلك - الوعي بهذه الإنيّة التي إذا برزت أكثر وأكثر في حياتنا لاحت لنا بواسطتها إمكانية للفهم والعمل بما فهمنا.

تلك هي "الإنيّة" التي تستطيع أن ترى كيف انطبقت بمحض جهلها على الأوهام الخاوية بغض النظر عن الكبرياء والشهوات المتأججة والجشع فتاهت وتاهت.

إن على كل منا في هذه الحياة وبهذا الجسد أن يكتشف بالفكر السليم أنه مثل كل شيء ذلك "الأنا" الذي بموافقته الحرّة يقع الإنسان في المحظور، أو يتحرّر ويكشف عن عوالم داخلية من السعادة التي لا يؤمن احدّ منا أنها فعلاً موجودة في داخله.

ولنحاول من وجهة نظر أخرى أن نقرب للقارئ هذا المفهوم ذي الأهمية الحيويّة: مفهوم الحضرة - أي الوعي بالأنا المجرّدة.

إن جان بول سارتر من الفلاسفة الذين ساهموا بقوة لا مثيل لها في دكّ عالم الوهم فينا دكّا قاتلا. فهو يصرّ في جميع مؤلفاته على هدم ما سمّاه بروح الجدّية في الحياة. ولهذا المصطلح تعريف دقيق في فلسفة سارتر. إنّ الإنسان الذي يقول بكل جدّية: أنا الطبيب أو أنا المهندس أو أنا المدرس - إنسانُ قصير النظر يسجن نفسه في سجن دور الطبيب أو المهندس أو المدرس. في حين أن الإنسان يستطيع أن يكون طبيبا أو مهندساً أو مدرّساً فهو إذن ليس بطبيب أو مهندس أو مدرس. أي أن "الأنا" الإنسانية، الحضرة الإنسانية فوق كل الأدوار والتمثيليات الوهمية التي قد تعتقد في جديتها.

يمكننا أن نقول أن إدراك الأنا قصير ولا يستمر ألبتة، وهو غير ثابت وغير صلب. من الطبيعي أن يأمل الإنسان أن يستمر إدراك "الأنا" ويصبح متمكنا مستقراً. الإنسان - ونحن مازلنا نتكلم لغة طليعة وصفوة تتلهف أن تتطوٌر- سوف يركز بمعنى سوف يطلب أن يدوم ويستمر هذا "الأنا" الموجود الذي يطوف فوق هذه الأمواج، وهو الذي سوف يصبح "أنا موجود" (Je suis) عندما يصبح دائماً، خالدا، أبديا (perpétué) أي بمعنى الحضرة في ذاتها بمثل هذا الإدراك "أنا موجود" يمكنه أن يعلو فوق الأمواج المتحركة للحياة الوهمية فيترك ما هو مؤقت، ومن يقول مؤقت يقول غير ثابت، وبالضرورة متغير (متقلب) سوف يتجه نحو ما هو دائم مستمر: ما يدوم ومستمر أعلى من ما هو غير ثابت ومتغير.

سوف يقول لنفسه وهو مذهول ومندهش: أنا موجود أنا موجود؛ وهو نور محض وهو الوعيّ بالكينونة (Conscience d’être ) لا يمكن المساس به (هذا المنيع الحصين) وهذه هي الحضرة في ذاتها.

إن العمل الذي نترجمه لقارئ العربيّة يوجّه كلامه لطليعة مختارة - بطبقة من النبلاء لم يرثوا النبالة بل اكتسبوها بصدقهم مع أنفسهم ومجهوداتهم المتصلة وحدّة وجدّيةِ تعقلهم للأمور. إن مثل هؤلاء الباحثين الصامدين سوف يحصلون على اكتشاف حالة الحضرة التي هي الوعيْ بالأنا، وقد تخلصوا من الكبرياء الذي يؤدى أكثر ما يؤدى إلى السبات العميق في وضح النهار، والى الانخراط في كل التيارات التي تؤدى بالإنسان إلى الحيوانيّة البلهاء بدلا من دفعه إلى الصراط الذي يعود به لخالقه - ولا نريد أن يظن القارئ إننا ننساق في الوعود المبالغ فيها. فالحصول على الحضرة مرحلة لا بد منها للارتفاع فوق السُكْرِ وغفلة الجهل والأوهام.

إلاّ أن المجهود المضني الذي أدّى بالباحث إلى حالة الحضرة - أي للوعي "بالأنا" المجرّدة وليس كلّ ما هو منشود.

على الباحث أن يتقدّم لحالة الحضرة - في - حدّ - ذاتها التي هي الوعي "بأنا موجود"، "أنا أوجد". والحالتان ليست نفس الشيء كما قد يبدو لأول وهلة لمن يقرأ هذا الكلام بل أن هناك فارقا دقيقا ولكنه فارق هام -

إن من يصل إلى الحضرة أي إلى الوعي بالأنا المجرّدة - والتكرار هنا له فائدته المحققة - يستطيع أن يحقق بواسطة ما حصل عليه خطوةً معتبرة. فإنه يستطيع أن يفيق لنفسه في أثناء انجرافه في تيار غضب دافق مثلاً. طوال الفترة الزمنية التي يكون واعيا فيها "بأناة" (إنّيته) المجرّدة. فيدرك أنه منجرف في تيار الغضب - وهى خطوةً كبرى في طريق الرقىّ - إلا أن الأمر يتوقف بالنسبة له عند هذا الحد. فهو مع إدراكه - لا يستطيع أن يتغلّب على التيار الغضبىّ الذي يحمله. ولكنّه يتوق بالطبع إلى السيطرة على هذا التيار. لن يتمكن من نيل ما يريد إلاّ إذا ركزّ على المعنى التجريدي: "أنا أوجد" - "أنا موجود" - "أنا مستمر الوجود". إنّ الباحث في حالة الحضرة - واعٍ بانيته يقول لنفسه: إنه أنا الذي يجرفه تيار الغضب، ولا يستطيع أن ينفصل عنه.

أما في الحضرة - في - حد - ذاتها فهو يقول لنفسه: أنا موجود مستمر في موجوديتى ولا قدرة للغضب على جرفي معه. فإن كياني ووجودي لا يمت بصلة لهذا الغضب الغريب علىّ.

والقارئ يدرك معنا أن الباحث قد انفصل عن الغضب فإن القيمة التي كان تعلقه بها أثار غضبه لم يعد يعيرها مثل هذه الأهمية - والموضوع الذي كان تمسكه به يثير غضبه قد غدا غير ذي أهمية - فهو قد انسلخ عن القيم الزمنية المتغيّرة، وبدأ يتعلق بما هو دائم لا يتغير مع الزمن ذلك الشعور الانّىّ بالوجود - ذلك النور الوجودي بلا ضياع للأنا - الذي يسمى بالحضرة - في - حدّ - ذاتها.

إن رجل الطليعة الذي يتلهف للارتقاء سوف يركز بكل قواه على الوعي بالأنا المجرّد - لإطالته وجعله مستديما - أي لتحويله إلى "أنا موجود" - الحضرة - في - حدّ - ذاتها. فهو يعلم أن هذا النوع من الوعي يرفعه فوق هدير الزمان وموج الوهمّ. وإذ يحقق ذلك وينتابه تعجب ملئ بالنور والفرح يقول لنفسه: أنا هو ذا - موجودّ - موجودّ بوجود لا يتلاشى، وليس إلاّ نوراً لا ظلمة فيه.

هذه هي حالة الحضرة - في - حدّ - ذاتها على قدر ما سمحت لنا قوانا بشرحها.

 

 
       
       
           

تصميم موقع . كم